لا يختلف اليوم اثنان حول قدرة الذكاء الاصطناعي على التغلغل في أدق تفاصيل حياتنا اليومية. من الروبوتات الذكية التي ترد على استفساراتنا، إلى أنظمة التوصية التي توجه اختياراتنا في التسوق والمحتوى الترفيهي، وصولًا إلى الأدوات التوليدية القادرة على إنتاج نصوص وصور وأكواد برمجية بجودة تثير الدهشة. هذه التقنية لا تكتفي بتسهيل حياتنا، بل تعيد تشكيلها وفق منطق جديد قد لا ندرك أبعاده بالكامل. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس فقط عن إمكانيات الذكاء الاصطناعي، بل عن القوى التي تتحكم فيه. من يمتلك هذه الأدوات؟ من يحدد كيفية استخدامها؟ والأهم، من يستفيد حقًا من هذه الثورة التكنولوجية؟

احتكار التكنولوجيا: عندما تتحكم القلة في المستقبل

هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى على الذكاء الاصطناعي لم تأتِ من فراغ. فالأرقام تعكس حجم السيطرة التي باتت تتمتع بها هذه الكيانات. “مايكروسوفت”، على سبيل المثال، عززت نفوذها في هذا المجال من خلال استثمارات ضخمة في “أوبن إيه آي”، وهو ما ساعدها في تحقيق نمو مالي بلغ 65.6 مليار دولار في الربع الثالث من عام 2024، بزيادة 16%. أما “ميتا”، فقد تجاوزت إيراداتها 40.6 مليار دولار، محققة ارتفاعًا بنسبة 19%. هذه الطفرة المالية ليست مجرد أرقام جامدة، بل تعكس نفوذًا متزايدًا يسمح لهذه الشركات بتحديد ملامح التكنولوجيا التي ستشكل المستقبل.

لكن وراء هذه الأرقام يكمن واقع أكثر تعقيدًا. فهذه الهيمنة لا تقتصر على امتلاك التكنولوجيا، بل تمتد إلى التحكم في معاييرها وتوجهاتها. بفضل استقطاب أفضل العقول في مجال الذكاء الاصطناعي، وامتلاك البنية التحتية الحاسوبية الأقوى، واحتكار الوصول إلى كميات هائلة من البيانات، تتمتع هذه الشركات بميزة تنافسية تجعل من الصعب على أي جهة أخرى اللحاق بها. الأسوأ من ذلك أن هذه السيطرة تُترجم إلى احتكار فعلي، حيث يتم توجيه الابتكار والتطور بما يخدم أولويات محددة، غالبًا ما تكون اقتصادية وتجارية أكثر منها اجتماعية أو إنسانية.

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فهذه الشركات تمتلك أيضًا قدرة كبيرة على التأثير في القوانين والسياسات العامة، بل وحتى على تشكيل الوعي الجمعي حول التكنولوجيا. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يتم الترويج للذكاء الاصطناعي باعتباره قوة إيجابية لا جدال فيها، مع التركيز على فوائده المحتملة، بينما يتم التقليل من شأن مخاطره أو تقديمها على أنها مشاكل يمكن معالجتها لاحقًا. هذا التلاعب السردي ليس عشوائيًا، بل هو جزء من استراتيجية مدروسة لضمان قبول عام واسع لهذه التقنيات، حتى لو كانت تحمل في طياتها تهديدات غير مرئية على المستوى الاجتماعي والسياسي.

الذكاء الاصطناعي وتآكل الاستقلالية الفكرية

نحن نعيش في عالم يعتمد بشكل متزايد على الأنظمة الذكية لاتخاذ القرارات، سواء في المجالات الاقتصادية أو العلمية أو حتى في حياتنا اليومية. فقد أصبح الذكاء الاصطناعي يتدخل في كل شيء تقريبًا، من التوظيف إلى العدالة، ومن الصحة إلى الترفيه. وإذا كان من المفترض أن تساعد هذه التقنية في تحسين كفاءة القرارات، فإنها تحمل في طياتها خطرًا حقيقيًا: التبعية المطلقة للخوارزميات، وهو ما قد يؤدي تدريجيًا إلى تآكل الاستقلالية الفكرية للأفراد والمجتمعات.

الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي يعني أننا نمنحها، بشكل أو بآخر، صلاحية اتخاذ القرارات نيابة عنا. قد يبدو الأمر بسيطًا عندما يتعلق باقتراحات الأفلام أو الموسيقى، لكنه يصبح أكثر تعقيدًا عندما يمتد إلى قرارات توظيف أو قبول طلاب في الجامعات أو حتى تحديد الأهلية للحصول على قرض مالي. الأخطر من ذلك أن هذه الأنظمة ليست محايدة كما نُحب أن نعتقد، فهي تعكس، بشكل أو بآخر، التحيزات الموجودة في البيانات التي تم تدريبها عليها.

لقد كشفت العديد من الدراسات كيف أن الخوارزميات قد تعزز الأنماط التمييزية بدلاً من تصحيحها. في بعض الحالات، أظهرت أنظمة التوظيف الآلية ميلًا لاستبعاد النساء أو الأقليات العرقية، فقط لأن البيانات التاريخية كانت تعكس واقعًا غير عادل. في مثل هذه الحالات، لا يصبح الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل يتحول إلى آلية تعيد إنتاج نفس الإقصاء الاجتماعي ولكن بأسلوب “رقمي” أكثر تعقيدًا وأقل شفافية.

نحو تعددية خوارزمية وحوكمة عادلة

إذا كان احتكار التكنولوجيا مشكلة، فإن الحل لا يكمن فقط في الدعوة إلى مزيد من التنظيم، بل في إعادة التفكير في كيفية بناء الذكاء الاصطناعي ذاته. أحد الحلول التي تكتسب زخمًا متزايدًا هو مفهوم “التعددية الخوارزمية”، أي السماح بوجود مجموعة متنوعة من النماذج والأنظمة، بدلًا من الاعتماد على عدد محدود من الفاعلين المسيطرين. وهذا يعني تعزيز الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، وتشجيع نماذج لامركزية تتيح للمستخدمين مزيدًا من التحكم في الخيارات الرقمية التي تؤثر عليهم.

لكن التعددية وحدها ليست كافية، إذ يتطلب الأمر أيضًا إطارًا تنظيميًا أكثر صرامة. الجهود الحالية، مثل قانون “الذكاء الاصطناعي” الذي تعمل عليه أوروبا، تمثل خطوة مهمة، لكنها تظل محدودة مقارنة بوتيرة التقدم التكنولوجي السريعة. المطلوب هو نهج أكثر شمولية، يُشرك الحكومات، والمجتمع المدني، والباحثين المستقلين، بل وحتى المستخدمين العاديين، في صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي: أداة للتحرر أم وسيلة للهيمنة؟

في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأهم: هل نحن بصدد استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة تساعدنا على تحقيق إمكاناتنا، أم أننا نسمح له بأن يصبح سيدًا يوجه حياتنا بطرق لا نتحكم فيها؟ الواقع أن هذا السؤال ليس نظريًا، بل يعكس معضلة حقيقية نواجهها اليوم. إذا تُركت هذه التكنولوجيا في أيدي عدد قليل من الشركات التي لا تخضع سوى لمصالحها المالية، فإننا سنجد أنفسنا أمام مستقبل تحدده الخوارزميات أكثر مما نحدده بأنفسنا.

لكن هذا ليس قدرًا محتومًا. فكما أن الذكاء الاصطناعي يحمل مخاطر، فإنه يتيح أيضًا فرصًا غير مسبوقة. بوسعنا أن نختار كيف نطوره، وكيف نستخدمه، وكيف نضمن أن يكون في خدمة الجميع وليس في خدمة قلة محتكرة. الخيار بأيدينا، والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو: هل سنكون فاعلين في هذه الثورة، أم مجرد متفرجين على عالم يُعاد تشكيله دون أن يكون لنا دور في صناعته؟

The post الذكاء الاصطناعي .. الثورة الصامتة appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

By Akhbar24h

مرحبًا بكم في Akhbar24h، مصدر الأخبار الأول لكل ما يحدث لحظة بلحظة!نحن منصة إخبارية رقمية نقدم لكم آخر المستجدات على مدار الساعة في مجالات السياسة، الاقتصاد، العملات الرقمية، الرياضة، والطقس، مع الحرص على تقديم محتوى موثوق، موضوعي، ومحدث باستمرار.مهمتنا:نقل الأخبار بكل مصداقية وحياد توفير تحليلات معمقة لأبرز الأحداث تقديم محتوى متجدد بأسلوب سلس وسريع تابعونا للبقاء في قلب الحدث أولًا بأول! تواصلوا معنا عبر الرسائل لأي استفسار أو اقتراح.#أخبار_24_ساعة #مواكبة_الأحداث #كن_في_الصورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *