إن الحديث عن رجل من طينة المرحوم عباس الجراري – الذي مرت بنا ذكرى وفاته الأولى -، هو كالتنقل بين جزر متعددة، غنية الموارد، فسيفسائية القطاف. فاهتمامات «عميد الأدب المغربي»، تنوعت بتنوع روافد الأدب، الذي لا ينهض حسب ما يرى الرجل على «مفهومه التعليمي: الشعر، النثر، … بل يتعداه ليشمل كل المعارف السياسية والفكرية و …». من تصوره هذا، تشعبت إنتاجاته وتوزعت على حقول معرفية ثرة، في الأدب والثقافة المغربية والأندلسية، وقضايا الفكر والتراث.

في البدء كان المسيد:

المؤسسة التي لم يخل دوار أو مدشر أو حي حضري منه، كانت الساكنة أول ما تبادر إلى إنشائه من المؤسسات التربوية، تحتضن الصغار لحفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة، إلى حين بلوغهم سن التمدرس. ولمن أراد المزيد، يلتحق بالمْحَضْرَة حيث الطُّلبة المتفرغون لحفظ كتاب الله، حتى يتخرجون وعلى رؤوسهم تاج الوقار والنور. كان هذا شأن المغاربة غنيهم وفقيرهم في العناية بتعليم أبنائهم، قبل أن يظهر إلى الوجود رياض الأطفال. والكل يؤدي الواجب الأسبوعي للفقيه (الأربعية او الحدية)، نسبة ليوم الأربعاء أو الأحد.

منه انطلقت رحلة عباس الجراري في مدارج التحصيل الدراسي، ومسالك البحث العلمي، كما تدرج كل مجايليه من رجال الفكر والأدب. ولأهمية دور المسيد في تكوين أطر المغرب ورجاله، حرص ملوك المغرب على الحفاظ عليه، بين أسوار القصر الملكي، ليكون أول ما تتفتح عليه عيون الأميرات والأمراء، في بداية تعلمهم، قبل أن يلتحقوا بالمدرسة المولوية، التي اشتغل الجراري بها مدرسا. ونظرا للطابع الديني للتعليم في المسيد، سيكون له كبير الأثر في مسيرة الرجل العلمية، حيث جعل التجديد الديني، والنهوض باللغة العربية، والثقافة الشعبية المغربية من أهم مشاغله، كرس لها الجزء الأكبر من مباحثه، تُوج باعتراف اليونسكو بالملحون تراثا عالمي. والذي كان يسميه ديوان المغاربة، ووثقه في أحد عشر مجلدا تحت عنوان: «موسوعة الملحون». ولا يخفى غنى هذا الفن بالقيم والحكم التي نطق بها لسان المصلحين، وحال العارفين، وكنز لتهذيب السلوك، والسمو بمطالب النفوس.

الولد سر أبيه:

حينما نتحدث عن المسيد في انطلاقة الرجل العلمية، فإننا نتحدث عن منصة إقلاعه، وتحليقه في سماوات الإبداع الأدبي والبحث العلمي. ففي حياة الرجل أكثر من مسيد، لكن مسيد الفقيه والمؤرخ عبد الله بن عباس الجراري – أبيه – يبقى أهمها. فهو أحد أعلام الثقافة المغربية ورجالاتها، المؤسس سنة 1930 «النادي الأدبي الجراري»، منتدى لرجال الأدب، والمشتغلين بالفكر، يلتقون فيه مساء كل جمعة، يتطارحون شجونهما. فاختيار الابن للدراسات العربية والمغربية خصوصا، يرجع الفضل فيه إلى عدة عوامل كما يصرح في إحدى حواراته، «إلا الفضل الأكبر يرجع إلى والدي رحمه الله، كما أفدت من أبوته المثالية، التي كان يضفي عليها صداقة حميمية، ويغنيها بأستاذيته النافعة».

فتوافق الأب والابن في التوجه الفكري والاهتمام الوجداني، نابع من عقيدة ترسخت لدى جيل بكامله، عاش الاضطهاد الاستعماري، وتملكته الرغبة في الانعتاق منه. ليس بالأسلوب العسكري فقط، فإلى جانب ذلك، هناك النضال الثقافي والفكري، كما قال المتنبي: «السيف والرمح والقرطاس والقلم». للحفاظ على الهوية الحضارية، والذود عن الحمى العقائدية، والتي تُعد اللغة العربية أهم مكوناتها. ولا سبيل لاسترجاع الاستقلال، إلا باسترجاع ثقافتنا. فلا يعدم عالم من طينة عبد الله الجراري، القدرة على التأثير في محيطه القريب (الأسرة)، وتحفيز أفرادها على الانغماس في معمعان الأدب، وهو الشخصية ذات الكاريزما المؤثرة في محيطه الأكبر من بوابة ناديه الثقافي، «فالأقرباء أولى بالمعروف». وهكذا فتح الابن عينيه كما يقال، في بيت علم وفقه، بقيادة مرب فقيه، يمتلك كل الصفات الإيجابية التي تؤهله لنقلها إلى الآخرين وخاصة ابنه. وقد حفظ الأخير الود بكل أمانة، وأنشأ في سنة 2009 جائزة عبد الله الجراري في الفكر والأدب، عرفانا بجميله، وامتنانا لصابغ فضله. وقد منحت لمفكرين وباحثين اهتموا بالفكر الإصلاحي المغربي، تحصينا للهوية، ودفاعا عن قضايا الأمة، منفتحين على العالم، متفاعلين مع يعرفه من اختلافات ثقافية وحضارية، بغاية الوصول إلى تحقيق التعايش الخلاق، والتوافق البناء.

عمر مديد وإنتاج غزير:

يمكن نعت المرحوم عباس الجراري بالمكثرين تأليفا، فمؤلفاته تربو عن المائة، بمعدل كتاب وزيادة في السنة منذ ولادته. ولقد غاص قلمه في مداد مختلف المجالات: الدراسات الإسلامية، الأدب بتفرعاته، قضايا الشأن الثقافي والفكري، الحوار بين الأديان والتقريب بين المذاهب. منطلقا في كل ذلك من هويته المغربية، التي سعى إلى تحصينها بمجهود فكري، نابع من تربة المغرب الثقافية، وحضارته الضاربة في أعماق التاريخ. فهو الذي دعا إلى فكر إصلاحي غير مستنسخ من المشرق، الذي طالما اعتبر منبعا للحركات الإصلاحية. فالحاجة ماسة لإعادة النظر في كل ما تم استيراده، وإعادة الاعتبار لمفكرينا ومصلحينا الذين لا يقل ما أبدعوه قيمة عن المشارقة. فالنقد الذاتي وتجديد الموروث ومحاورته، بما فيه الفقه الإسلامي، حيث «وضعه الراهن غير المسعف للنظر من خلاله إلى قضايا العصر الشائكة» (عباس الجراري). فمياه ثقافتنا دائمة الجريان، تجدد عناصر قوتها على مر الأزمان، تنقيحا وتكييفا مع تربة المغرب، التي انصهرت في بوتقتها روافد حضارية عدة.

لقد آمن الرجل أن «الإصلاح المنشود»، والنهضة المأمولة، تمر من بوابة التعليم والبحث العلمي. بتشجيع العلماء، خصوصا في الدراسات العلمية التطبيقية، فهي القادرة على تحقيق التنمية في استقلال تام عن الغرب. فنحن نحتاج إلى مقاومة ثقافية كما كنا في حاجة إلى مقاومة مسلحة أيام الاستعمار الغاشم. مقاومة قوامها اللغة العربية ب «جعلها أداة للتعليم والإدارة والإعلام» (عباس الجراري)، لأن لغة المستعمر أغرقتنا في الأخطاء، وجعلتنا نفر إلى الدارجة. وكان يحذوه الأمل في أن تقوم أكاديمية محمد السادس للغة العربية، التي أعلن عن إنشائها سنة2016، بإعادة الاعتبار والتألق للعربية.

The post عباس الجراري .. موسوعية أديب appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

By Akhbar24h

مرحبًا بكم في Akhbar24h، مصدر الأخبار الأول لكل ما يحدث لحظة بلحظة!نحن منصة إخبارية رقمية نقدم لكم آخر المستجدات على مدار الساعة في مجالات السياسة، الاقتصاد، العملات الرقمية، الرياضة، والطقس، مع الحرص على تقديم محتوى موثوق، موضوعي، ومحدث باستمرار.مهمتنا:نقل الأخبار بكل مصداقية وحياد توفير تحليلات معمقة لأبرز الأحداث تقديم محتوى متجدد بأسلوب سلس وسريع تابعونا للبقاء في قلب الحدث أولًا بأول! تواصلوا معنا عبر الرسائل لأي استفسار أو اقتراح.#أخبار_24_ساعة #مواكبة_الأحداث #كن_في_الصورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *