التفكير العمراني، حالة معرفية منهجية
مأزق التكنوقراطية والتقَنية في سياساتنا العمرانية
التحيز المجالي أداة للتفكير العمراني
البعد المعرفي والقيمي لسياساتنا العمرانية
البعد السوسيولوجي لسياساتنا العمرانية

إن القول بالتفكير العمراني رؤية معرفية ودعوة للتجديد المنهجي، تؤسس كما نعتقد، لمقاربة متحيزة لحقل التعمير وأدواته ونتائجه، خلافا للمقاربة الوظيفية، التي تجعل من التعمير أداة تنظيمية للمجال، يحكمها هاجس المراقبة والضبط، من خلال الترخيص والتحكم في التوسع العمراني، وذلك بما يجعلها سياسة مُواكِبة، لا تؤطر مجالا بله أن تستجيب لرهاناته أو تستشرف تحولاته، إلا فيما ندر من الحالات.
أن نفكر عمرانيا، إقرار بتحيز المجال مدخلا لصياغة السياسات العمرانية، إذ لا تتم هذه السياسات باعتبار امتداداتها وأبعادها وصفتها، فهي عناصر لا تقود إلى إنتاج دلالة أو فاعلية لهذه السياسات، وذلك لأن التدليل مرتبط بموقع المجال -وعاء للسياسات العمرانية- ضمن العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وذلك على اعتبار أن الهوية الهندسية للمجال لا تنفصل عن طبيعة الهوية الهندسية للاجتماع الإنساني الذي يشكل المجال ويتشكل به.
ومن البين حسب ابن خلدون أنه يَجمع ويُوحد بين العمارة والحياة الاجتماعية، ضمن كل تاريخي واجتماعي موحد يطلق عليه العُمران. من ثم فهي عمارة إنسانية اجتماعية، تتأسس مشروعيتها من واقع استجابتها للخصوصيات القيمية المحلية من جهة، كما تترجَم فاعليتها من واقع فعلها وأثرها في الاجتماع البشري من جهة أخرى. وهو ما يعني أن حضور المجال أو المكان في سياساتنا العمرانية ليس جغرافيا وحسب، بل هو إنساني واجتماعي بالأساس.
وفقا لذلك، يستدعي اختيارنا المنهجي في تثوير التفكير العمراني حالة من:
– الانفتاح المرن والتنافذ الحر بين المناهج والحقول المعرفية المختلفة، من أجل المزيد من الإضاءة والفهم للسياسات المتعلقة بإعداد التراب أو التعمير أو التدبير العقاري؛
– اعتماد العلاقة المرآوية بين المجال والإنسان، في ظل اعتقاد أن أي خلل في هذه السياسات، إنما ينجم في أصله ويعبر في نتيجته عن التوافق من عدمه بين هذه السياسات والإنسان، وهو ما يظهر على مستوى الهوية الإنسانية استيعابا أو استبعادا، وعلى مستوى الهوية المجالية جمالا أو تشوها بصريا عمرانيا؛
– توسيع هامش الفكري والثقــافي، إذ وفقـــا لــ Peter. Taylor et Colin. Flint في كتابهما Political Geography، فإن الوفرة في الدراسات الحضرية لا ينبغي أن تلهي عن حقيقة العقم الذي يشوب النظرية التي يتم من خلالها تناول هذه المعلومات المتاحة والوفيــرة. وهو ما عبر عنه إدغار موران في كتابه حول المنهجية أنه أمام أزمة الأسس والمنطلقات، وأمام تحدي تعقد الواقع، تحتاج كل معرفة أن تفكر في ذاتها لتُعرف وتَتَموضع وتُشكل النموذج.
عبر عن ذلك أستاذنا عبد الوهاب المسيري في سيرته الذاتية، بالذئاب الثلاثة، حيث ذئب الثروة وذئب الشهرة، وكذا الذئب المعلوماتي، الذي يعبر عن حالة من التخمة المعرفية التي تتلبس الشخص في محاولته معرفة كل شيء، إلى أن يصل ألا يعرف شيئًا مثله، وذلك بما يحيل -في حالتنا- إلى معضلة التكنوقراطية والتقنوية في السياسات العمرانية.
هنا تظهر أهمية مقاربتنا حول التفكير العمراني، في كونها تستوعب المقاربة التكنوقراطية، والتي تغفل في صلب إيمانها بالخبرة في مجال معين، وبالحسابات والمقاييس والمعطيات الرقمية، تلك المعطيات المرتبطة بنسيج الأعراف والتقاليد وخصوصيات الإنسان وخبراته الاجتماعية في التخطيط المجالي. فالأمر لا يتعلق بانحصار المعرفة في مجال علمي أو تقني محدد، وإنما بالكيفية التي تؤدي فيها هذه المعرفة دورا في تحقيق التوازن والانسجام الشامل الذي سماه المُنَهِّج الأمريكي المعاصر ويليام دول في كتابه المعتبر حول المنهج في عصر ما بعد الحداثة بالطريقة العامة الشاملة الحكيمة للحياة والمعرفة، التي لا يشتق فيها المنهج من إطار منظم محدد، وإنما بناء على الخبرات الحية، التي تعني التفاعل مع المجال.
كما يستوعب التفكير العمراني المقاربة التِّقَنية في التخطيط المجالي والعمراني، التي وإن تحقق من خلالها عقلانية التخطيط ونجاعة التنفيذ، فإن مدخلاتها تظل أبعد ما يكون عن المقاربة الاجتماعية-الحقوقية. كما أن مخرجاتها التنموية، لا تتأسس بالتبع على المقاربة الحقوقية ذاتها، مما يجعلها تنمية معاقة اجتماعيا، لا تحفظ ذاكرة جماعية ولا توطد سلما اجتماعيا ولا تضمن استدامة للتطور الحضري. ومن هنا كان مشهد التناقض القائم بين تعمير قانوني منظم لكنه لا يستجيب في المجمل إلا لقلة من الحاجيات، ولا تكاد تفرق بينه -لنقائصه وكثافته- وبين العشوائيات بعد إعادة هيكلتها، وتعمير غير قانوني يعوزه النظام والتجهيز، لكنه يستقطب نسبة عالية من الطلب على السكن وباقي الخدمات.
تفسر ذات المقاربة التقنية غلبة المعالجة الآنية على التخطيط المجالي والعمراني، حيث نجد أنفسنا أمام مضمون محدود وجامد لهذه الوثائق، مضمون يعيد إنتاج نفسه بشكل لا يستوعب الواقع الاجتماعي، فتصبح عمليات التخطيط العمراني والعمراني تكريسا للأمر الواقع، وشرعنة للحاضر، وبما يكرس -في ظل بطيء مساطر الإعداد- تقادم التوقعات المجالية والعمرانية، وعدم مطابقتها مع الواقع المجالي ومتطلبات التنمية.
يرتبط ذلك في جزء منه بمنهجية الإعداد/التخطيط العمراني، وإشكالية الإنجاز/التنفيذ لمقتضيات وثائق التعمير. حيث يفترض أن يعبر التخطيط العمراني عن رؤية عمرانية تستهدف التنمية، وذلك بأن لا ينحصر التخطيط العمراني في تشبيك المعطيات المونوغرافية، أو تجميع المشاريع المزمع إنجازها، أو حصر الحاجيات المستجدة ضمن خيارات التهيئة في مجرد الاختلالات الناجمة عن تقييم وثائق التعمير السارية المفعول، بما يفترضه ذلك من التمييز بين الاختلالات المتعلقة بالإعداد وتلك المتعلقة بإنجاز مضامين وثائق التعمير عموما، وكذا اعتماد نمط من التخطيط العمراني يتجاوز نظام التنطيق باعتباره تقسيما للمجال إلى مناطق ذات استخدامات مختلفة (Système de zonage)، أو نظام التخصيص باعتباره استعمالا مقننا لذات المناطق (Système d’affectation)، أو نظام تقسيم المجال إلى وحدات مجالية فرعية تشكل أداة تحليل وتنظيم المجال (Système de maillage)، إلى نمط المشروع الحضري (Projet urbain) الذي يتوافق على مستوى المفهوم مع الممارسات الأكاديمية العميقة للتدريس في قضايا التهيئة والتعمير، وعلى مستوى الإعداد مع كونه تخطيطا استراتيجيا للمجال من حيث اعتباره توقعيا على مستوى الزمن، ومندمجا على مستوى الفاعلين المتدخلين، ودامجا على مستوى الاستجابة للحاجيات، وذلك لكونه يشمل واحدة أو أكثر من العمليات الحضرية ذات الأهمية، والتي تؤدي إلى تطوير الأحياء المتعددة الوظائف، أو إعادة هيكلة المساحات الحضرية العامة أو المرافق ذات الأهمية البالغة، كما قد يشمل مشاريع النقل والتنقل الكبرى… وهو ما يجعل منه تخطيطا براغماتيا يتسم بالقدر المعتبر من العملية والفعالية.
أما فيما يخص إشكالية الإنجاز لمقتضيات وثائق التعمير، فإن قراءة للمادة 31 من القانون 90.12 المتعلق بالتعمير، وكذا المادة 101 من القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات الترابية، إضافة إلى الدورية رقم 005/م.ت.م.هـ/م.ق الصادرة بتاريخ 17 يناير 1994، والمتعلقة بتصميم التهيئة (مراحل دراسته وبحثه والموافقة عليه ومتابعة إنجازه)، فإن الجماعات الترابية تختص بهذا الإنجاز، وذلك في ظل جملة من الإكراهات التقليدية التي تعرفها جماعاتنا الترابية، وبخاصة مع تنازل الدولة بموجب القانون على الكثير من وظائفها التقليدية لصالح الهيئات الترابية المحلية، بما كان لذلك من الأثر في تكريس المنحنى المتدني لإنجاز مقتضيات وثائق التعمير.
وإلى جانب استيعاب مقاربتنا في التفكير العمراني إشكاليتي التكنوقراطية والتقَنية، فإنها في المقابل تأتي تأكيدا على التحيز المجالي، حيث أن المقاربة التقنية نفسها، وإن على طابعها الإجرائي، فهي تستبطن نموذجا معرفيا كامنا متحيزا، يشمل المجال والعمران والمعمار، وهو ما يفسر حالة الضرورة في اختيار منهج دون آخر، لدرجة أليس ثمة اختيار إلا أن تختار، ومادام اعتماد المنهج اضطرار، فلابد أن نعترف بأن قدرا من التشويه يلحق المنهج الذي نختار، فنكون ملزمين بتسويغ اختيار المنهج، ولا يكون ذلك ممكنا إلا بالرجوع إلى الافتراضات المسبقة والضمنية التي يقوم عليها هذا المنهج، وعينا بها أم لم نع، وهي افتراضات تجعل النتائج متوقعة، وعناصر يمكن التنبؤ بها، حتى قبل عملية الشروع في التخطيط وفقا للمنهج المختار، فكان الانحياز المنهجي حقيقة واقعة، وإن كان يفترض أن يتم داخل التنوع والتعدد والانفتاح، الذي لا يبلغ النقل والمحاكاة على مستوى الأطر الفكرية والتقنيات العلمية والمقومات الشكلية، بالشكل الذي يولد حالة من الاستتباع العلمي والعملي.
ضمن هذا السياق، وإن على سبيل المثال، يتحيز الطراز العمراني والمعماري الدولي إلـــى تحقيق وفر اقتصادي في التكاليف والمجهود وزمن التنفيذ، من خلال الإعداد المسبق لنموذج الحوائط الإسمنتية، بأبعاد ثابتة ونماذج موحدة للتصاميم حرصا على التماثل والتكرار؛ تحقيق سهولة الإنتاج الآلي من خلال الاعتماد الغالب على الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة؛ اتخاذ الإنشاء كأساس للتصميم بدلا من الانتفاع، لأن الانتفاع مؤقت ومتغير، والإنشاء هو الشيء الثابت والمنطقي؛ رفع المستوى الحضاري للسكان، بتصميم بيئة راقية تحقق الاستمرارية بين الداخل والخارج، هذه الاستمرارية التي تتجلى كذلك في تجميع المساكن على فراغات مفتوحة؛ الاستغلال الأقصى لمسطح قطعة الأرض في إطار ما يسمى بالتجديد الحضري … وغير ذلك كثير.
وهنا يجدر بنا التساؤل إذا ما تمكن هذا الطراز ضحيةً لذئب الثروة -حسب أستاذنا عبد الوهاب المسيري- حيث التراكم الرأسمالي أبلغ من أسلوب الحياة نفسه، من تحقيق أهدافه؟ إذ لو تتبعنا تحليل بعض النماذج من هذا الطراز لوجدنا حالة من التشابه بين المباني على اختلاف وظيفتها ونوعية المستعملين، مما أدى إلى إلغاء شخصية المباني، وافتقاد منطقية التصميم أحيانا، حيث واجهة المبنى الإداري كواجهة الفندق وكواجهة العمارة السكنية؛ فقدان السكن لمعناه، خاصة أمام استعمال نفس المداخل للأسواق التجارية والمكاتب المهنية، مما يؤدي كذلك إلى خلط الاستعمال بالمستعملين؛ تجميع عدد كبير من الأفراد في تجمع سكني واحد أدى إلى ارتفاع معدلات الجريمة والإصابة بالأمراض النفسية؛ صعوبة تآلف عدد كبير من السكان؛ افتقاد الشعور بالأمان لصعوبة التمييز بين سكان العمارة والأغراب؛ فضلا عن ضعف تدبير حالات الطوارئ.
هذا مع الإشارة إلى أن الأمر لا يتوقف عند اقتباس الطراز الدولي العمراني والمعماري، ولكن تعداه إلى اقتباس بعض قوانين البناء، فالقول مثلا « بارتفاع المبنى مثل ونصف عرض الشارع »، يعد محض استعارة للحد الأقصى للارتفاع من اشتراطات المباني بجزء صغير من منطقة وسط باريس، دون مراعاة زاوية ميل الشمس شتاء، مما يؤدي باقتباس قوانين البناء إلى عدم الملاءمة مع الخصوصيات المناخية لكل منطقة. وللقارئ الكريم مراجعة المقدمة الشهيرة لابن خلدون في أهمية علاقة الإنسان ببيئته وأثر المناخ في تكوين الصفات النفسية للشعوب وطبائعها وخصائصها، وما يفترضه ذلك من اعتبار السياسات العمرانية هذا البعد في تأليف سلوك الفرد مع محيطه الاجتماعي، وذلك ضمن أنساق عمرانية تتعدد باختلاف الأنماط البيئية، ومن ثم باختلاف الاشتراطات البنائية في المخططات العمرانية التي تترجم -وفقا لهذا التصور- البعد الجمعي كمقدمة بمنزلة الشرط لتخزين الرصيد الجمعي الحافظ للخصوصيات العمرانية وحاجاتها المادية والفكرية والذوقية والجمالية، ومنها الحاجة المستجدة لمراعاة التغيرات المناخية ومتطلبات التنمية المستدامة في مخططاتنا العمرانية.
كما أنه، وفي السياق ذاته، شكل التوجه نحو الإنفاق في بناء المدن الجديدة استثمارا في إنشاء قوالب اسمنتية لاستيعاب الفائض البشري، والتي يعتمد تصميمها على التشكيل المقدم للفكرة وفرضها على الواقع، بينما المدينة العربية تعتمد في تصميمها على عادات الاستعمال لقاطنيها والعرف الاجتماعي السائد، مما يؤدي في تصميم المدينة المعاصرة إلى وضع نماذج للاستعمال لا تكون بالضرورة متطابقة مع قواعد الاستعمال المقبولة للسكان.
وتأكيدا منا لما يفترض في المقاربة التقنية الإجرائية -في حد ذاتها- من استبطان النماذج المعرفية الكامنة المتحيزة، فإن نظاما كنظام التنطيق (système de zonage) المعتمد في سياساتنا العمرانية، شكل حين اعتماده بالمدن المغربية المستعمرة، نظاما للتباين العرقي والتعارض المجالي، وفقا لما قرره الأستاذ عبد الرحمان رشيق في أطروحته حول السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية، وذلك بدءا من سنة 1907 على يد الإدارة الاستعمارية، وبخاصة خلال أول مخطط للتهيئة سنة 1917، على يد المهندس المعماري هنري بروست، الذي اعتمد نظام التنطيق تنفيذا لتصورات المقيم العام ليوطي بين (1912-1926)، وكردة فعل تحكمت فيها الهواجس الأمنية المرتبطة بتنامي ظاهرة الهجرة إلى المدن، وبالهواجس الصحية المتعلقة بانتشار الأمراض المعدية والفتاكة، حيث مكن نظام التنطيق من فصل الأوربيين عن المغاربة بناء على فوارق وحدود مجالية عرقية، وذلك وفقا لما كان يصطلح عليه في حينه بالمدن الجديدة.
بناء عليه، تبلور مجال المدينة وفقا لنظام التنطيق، وإن كان ذلك وفقا لاعتبارات المنظومة الثقافية المحلية، فإنه لم يخرج عن الإطار الذي يعكس فيه نظام التنطيق الاختلافات العرقية والاجتماعية في تنظيم مجال المدينة، حيث سيجري بعد التدخل الاستعماري، تجزئة المجال الحضري وفقا للاعتبارات الاجتماعية، إذ سيخصص حي كوسيمار بالدار البيضاء للعمال، وأقصي معظم الباقين إلى الضواحي، ليشكلوا فيما بعد مدن الصفيح، كما خصص حي الأحباس بالدار البيضاء للتجار والأعيان، وهو النمط من الأحياء الذي شكل ثقافيا عنوان تقدير لمؤسسة الأسرة، وفقا لما أكده تصوره العمراني والمعماري، وذلك من خلال إنشاء أزقة ضيقة لتجنب مرور السيارات، وإبعاد المرافق الاجتماعية والثقافية والخدماتية وفضاءات الترفيه إلى خارج المناطق السكنية لعدم جلب الغرباء إلى الحي، فضلا عن عدم جعل بوابات المنازل متقابلة … وغيره.
استمر تفعيل نفس المقاربة مع إيكوشار (1947-1953)، وذلك باستمرار احترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية المحلية، من خلال تجنب الأحياء المغلقة، واعتماد السكن العمودي الجماعي للأوربيين واليهود المغاربة، والسكن الأفقي بلا نوافذ ومن طابق واحد للمغاربة المسلمين، دون أن تؤدي المنازل إلى الشوارع الرئيسية أو الثانوية.
وإذا كانت مقاربتنا حول التفكير العمراني تستوعب التكنوقراطية والتقَنية، وتنطلق من فرضية التحيز المجالي، فإنما ذلك للتأكيد على البعد المعرفـــي والقيمي في سياساتنا العمرانية، والذي يجعل الانتقال من سياسة عمرانية لأخرى انتقالا بين الأنماط المختلفة للعيش، وهو ما يفترض أساسا، اعتبار كل من البيئة الزمنية للمجال، حيث يعكس المجال التاريخ وقوانينه وتجاربـه وخبراته المستبطنة في ذاكرة المجتمعات، والتي لا تنتهي بمجرد زوالها الوجودي، وإنما تظل حية في المجال باعتباره حاضنا لخبرة المجتمعات، فكانت ضرورة الانطلاق من تاريخ المجال وسماته لكي تتوفر إمكانية تزكيته وتطويره اللاحق أمرا حتميا. وكذا البيئة المكانية للمجال، حيث يعد المكان متغيرا فرعيا تابعا للبيئة الزمنية للمجال- ومن هنا كانت دراستنا المستفيضة حول الزمن القروي- رغم الإيقان بأهمية المكان في فهم المجال والتفاعل معه، على نحو لا يجعل للمكان دورا مستقلا إلا بمقدار ما يمثله من مؤشر على اختلاف الإطار الفكري والثقافي، أو على الأقل، وفي الحدود الإجرائية أو البرغماتية الدنيا، مؤشرا على متعة المكان على غرار متعة النص لدى رولان بارت.
ومن مقتضيات التحيز المجالي كذلك، ما يتعلق باستحضار البعد السوسيولوجي في السياسات العمرانية، حيث ضمن هذا البعد يشير الأستاذ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﺎن رﺷﻴﻖ، في ذات الأطروحة المشار إليها سلفا، أن إشكالية الرابط الاجتماعي، إنما ارتبطت بالثورة الصناعية، كما ارتبطت في السياق الوطني بظهور القيم الاستعمارية منذ سنة 1907، تم من خلالها فرض نظام يرتكز على قيم السوق والتنافسية والأجر والحساب والوعي بالزمن وأهميته temporalité، في سياق التأسيس لعلاقات اجتماعية يحكمها ذئب الشهرة -حسب أستاذنا عبد الوهاب المسيري- ونشوته وسكرته، حيث الشهرة صناعة قائمة على الاستهلاك والمصلحة الخالصة والإلزام القياسي بالدفع الفوري.
وهنا يمكن الإحالة مرة أخرى إلى الأستاذ عبد الرحمان رشيق، وهذه المرة من خلال مؤلفه المعتبَر حول المجتمع ضد الدولة، حيث يَعتبر أن سلوكا كتحفظ ساكنة المدن الكبرى -الذي تحدث عنه جورج سيمل Georg Simmel- والذي يفسر صناعة الشهرة في عالم المدينة، بخلاف شهرة الكل لدى الكل في الأرياف والمدن العتيقة- لا يعني فقط عدم الاكتراث باختلاف الأشياء، بل يذهب هذا التحفظ إلى حد التعبير عن النفور الطفيف، والغرابة المتبادلة، والنفور المشترك الذي يتحول فورا إلى الكراهية والصراع في لحظات الاتصال الوثيق، مهما كانت الطريقة التي تم بها، ليقرر جورج سيمل في النهاية أننا نحمي أنفسنا بسياج من النفور.
لذلك، فالقول بالبعد السوسيولوجي لسياساتنا العمرانية، إنما يتعلق بمقاربة الرابط الاجتماعي باعتباره نظاما للتفاعلات الاجتماعيـة، وذلك بخاصة أمام غياب التداول حول الرابط الاجتماعي في النقاش العمومي والسياسي، واقتصار مصدر القلق في السياسات المجالية والعمرانية على بناء السكن، والقضاء على أحياء الصفيح، وما لذلك من الآثار والمخلفات الاجتماعية. وهو ما يفترض صلة التخطيط المجالي والعمراني إن تأثيرا أو تأثرا بالقيم الاجتماعية مؤشرا على حقيقة وصدقية وقوة الانتماء للمجال، ومؤشرا على تخطيط قائم على ملاءمة الحكامة المجالية للتحولات السوسيولوجية والخصوصيات الثقافية التي تخص نمط العيش والسلوك، والتي أصبحت مسرحا للصور النمطية عن الحدود المجالية السوسيولوجية، نتيجة للتفاوتات المجالية وما كرسته من مظاهر الإقصاء والتمييز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وحتى اللغوي، والتي تجد الفضاء المناسب، ليس وحسب بين المجال النافع وغير النافع، وإنما داخل نفس الحي وفي نفس المدينة، وذلك في تجليات وتمظهرات جمة ليس المقام هنا للتفصيل فيها.
ومن المهم في هذا الإطار، استدعاء السوسيولوجي جورج سيمل، وذلك في نظريته للمجال بوصفه شرطا قبليا للبناء وإعادة البناء الاجتماعي، حيث يرى أن دراسة الظواهر الاجتماعية تستلزم النظر في سياقها المجالي وشروط تشكله، وذلك بالتأكيد على أن مجالاتنا تتشكل من علاقات التفاعل بين الأفراد في حيز مكاني معين.
من ثم، فإن سؤال النجاعة في سياساتنا العمرانية يرتبط بالقدرة على استيعاب أنماط التفاعلات الاجتماعية، والتي تشكل هذه السياسات وتتشكل بها، وذلك ما دامت تتم في مجال معين. فما أن يدخل الأفراد في التفاعلات والتأثيرات المتبادلة حتى تبدأ السياسات العمرانية في التشكل، وما إن تتشكل هذه السياسات حتى تؤثر على الأفراد لبناء علاقاتهم الاجتماعية تبعا للمجال الذي يتموضعون فيه. وبناء عليه تتأسس الوحدات الاجتماعية تتويجا لعلاقات التدافع التي يحدثها تلاقي أو تضارب الغايات والمصالح.
وفقا لذلك، فكل علاقة بين العمران والمجال تحمل طابع الخصوصية، لأنها علاقة نوعية تعكس تجربة إنسانية خاصة مرتبطة بشروط محددة، تجعل العلاقات الاجتماعية بما هي تفاعلات فردية شكلا محددا من الحياة الاجتماعية لا يمل تكراره لأنه يحمل تميزه.
ومن مثال ذلك، إمكانية فهم سياساتنا العمرانية في سياق التراتبية الاجتماعية، وذلك عندما يشير بورديو في أطروحته حول سوسيولوجيا الهيمنة في الفضاء الاجتماعي، أن التخطيط المجالي أو العمراني حالة صراع غير متكافئ بين فاعلين غير متساوين في القوة على رأسمال مادي أو رمزي معنوي، وهو أداة تُحدد هوية الفاعلين، وتُفسر الأنشطة والممارسات، وذلك بحسب علاقات القوة التي تحكم المجال وعاء لهذه السياسات، وتفرض نفسها على كل من يدخله.
وهو ما يحيل إلى مفهوم التراتبية، كما عند جيل دولوز في مؤلفه حول الاختلاف والتكرار، والذي يعد محصلة للسياسات العمرانية، وذلك لمَّا تمارس هذه السياسات حالة من التقسيم المجالي وفقا لتراتبية تَعتبر الناس والأهالي من وجهة نظر القوة والقدرة، حيث يصبح التوزيع المجالي للمقدَّرات مرادفا لتوزيع القدرة على التموقع في المجال، فيتحدد مجال الناس ومساحتهم عند حدود ما يستطيعون وصوله بالقوة.
وبالتالي، فإن سياساتنا العمرانية، حين تمكن الأفراد من أن يشغلوا مجالا معينا، فإن ذلك يعكس المكانة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ويعبرون عنها ضمن علاقتهم الاجتماعية، وبهذا تصبح سياساتنا العمرانية انعكاسا للتراتبية الاجتماعية مادام ليس لكل الأفراد نفس الحظوظ والإمكانات للولوج إلى المجال واستهلاكه. هكذا، نكون أمام سياسة عمرانية تفرض مساحات مجالية ذات قيمة سوسيولوجية، تعبر عن التمايزات الاجتماعية، التي تتمظهر في الولوج اللامتكافئ للموارد المادية واللامادية والفرص الاجتماعية المتاحة.

 

By Akhbar24h

مرحبًا بكم في Akhbar24h، مصدر الأخبار الأول لكل ما يحدث لحظة بلحظة!نحن منصة إخبارية رقمية نقدم لكم آخر المستجدات على مدار الساعة في مجالات السياسة، الاقتصاد، العملات الرقمية، الرياضة، والطقس، مع الحرص على تقديم محتوى موثوق، موضوعي، ومحدث باستمرار.مهمتنا:نقل الأخبار بكل مصداقية وحياد توفير تحليلات معمقة لأبرز الأحداث تقديم محتوى متجدد بأسلوب سلس وسريع تابعونا للبقاء في قلب الحدث أولًا بأول! تواصلوا معنا عبر الرسائل لأي استفسار أو اقتراح.#أخبار_24_ساعة #مواكبة_الأحداث #كن_في_الصورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *