لا حديث للرأي العام إلا عن مدارس الريادة التي أصبحت تشكل موضوعا محوريا في النقاش حول السياسات العمومية في بلادنا، إلى درجة أن تشكل عنوان الجلسة العمومية للأسئلة الشفهية الشهرية الموجهة إلى رئيس الحكومة يوم الإثنين 19 ماي 2025. وهذا يظهر قدرة الحكومة على توجيه النقاش العمومي من الموضوع الذي كان ينبغي أن يشكل بؤرة الاهتمام الأساسية وهو إصلاح منظومة التربية والتكوين، إلى موضوع كان يتعين أن يكون ثانويا بحكم أننا نتحدث عن تجربة من التجارب، نجاحها أو فشلها يمكن مناقشتهما بعيدا عن أي رهان سياسي أو مجتمعي. إذ أن المتعارف عليه في تدبير المنظومات التربوية هو أن يتم تجريب حلول تربوية جديدة بشكل مستمر ثم تبني الصالح منها دون ضوضاء أو بهرجة، على أن نحتفي بالنجاح عندما تعمم هذه الحلول وتثبت جدارتها. لأن من البديهي عند واضعي السياسات العمومية أن فترة التجريب لها خصوصيات تمنع من اعتبار نتائجها، ولو كانت واعدة، بأنها تدل على أنها ستكون ناجحة فعلا في فترة التعميم بالمستوى نفسه من النجاح التجريبي. لذلك أيضا، الكثير من الدول تخصص ضمن الهيكلة التنظيمية لوزارة التعليم بنية إدارية تعنى بالتجريب، كما كان الحال عندنا مع المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب الذي كان مفترضا أن يقوم بهذا الدور قبل حذفه من الهيكلة الجديدة للوزارة، لكن في ضوء تحول هذه الأخيرة بجميع مكوناتها إلى مركز للتجريب قد يصبح هذا الحذف مفهوما.

إن تسليط الضوء على مشروع في طور التجريب، لا نتوفر على نتائجه إلا من خلال عينة 626 مؤسسة التي جرب فيها المشروع السنة الماضية، وهو ما يمثل خمسة في المائة فقط من حجم المنظومة التربوية المغربية، ما هو إلا محاولة لتحويل اهتمام الرأي العام من الانشغال بأحوال التعليم في بعدها الشمولي إلى الانشغال بأحوال مؤسسات بعينها توفرت لها شروط التميز عن باقي المؤسسات، علما بأن المدرسة العمومية كانت تتوفر دائما على مؤسسات بمردودية جيدة تتراوح نسبتها حسب الأسلاك التعليمية ما بين 10 و15 في المائة. فهل يعني ذلك أن الحكومة ستحاسب في نهاية ولايتها بعد سنة ونيف على تدبيرها لمؤسسات الريادة أم على تدبيرها لمنظومة التربية والتكوين في شموليتها، كما ألزمها بذلك القانون الإطار 51.17 الذي لا يفصلنا عن أجل تنفيذه سوى خمس سنوات؟
الجواب عن هذا السؤال بدأت ملامحه في الظهور منذ مدة وتشكلت صورته النهائية في الجلسة الشهرية الأخيرة لرئيس الحكومة في مجلس النواب. لكن ذلك لا يمنع، حرصا على توخي الموضوعية والمقاربة العلمية، من مناقشة مشروع مدارس الريادة من بعض الزوايا التي قد تساعد على تقديم صورة مكملة للصورة المثالية التي تسوقها الحكومة.
أولا، صرح رئيس الحكومة بأن تجربة مدارس الريادة سجلت تحسنا ملموسا في التعلمات الأساس لدى التلاميذ مما يعادل استدراكا للتعلمات ما بين سنة وسنتين من الدراسة. في الحقيقة لا أحد كان يتصور أن هذا الكلام الذي يتناقض مع أي منطق تربوي سيتم تكراره مرة أخرى من طرف الحكومة، وهذه المرة في خطاب رسمي أمام نواب الأمة. ولا أدري هل يعي من كتب هذه الفقرة حجم المغالطات واللامعنى الذي تنطوي عليه أم أن الأمر مقصود ما دام يندرج ضمن التسويق السياسي للبضاعة التربوية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا هؤلاء المتعلمون الذين ربحوا سنة أو سنتين واصلوا دراستهم في المستوى الدراسي الذي كانوا فيه إبان التقييم ولم يتم نقلهم على الأقل إلى المستوى الموالي؟ ألا يعلم من يروج لهذا الحديث أنه يضرب في مصداقية الأطر التي سهرت على تقييم التعلمات بعد استفادة المتعلمين من الدعم التربوي المسمى طارل؟ إن هذه الأطر تعلم يقينا بأن من الهرطقة التربوية أن تتبنى هذا الطرح ببساطة، لأنه لم يتم تقييم تلامذة مستوى دراسي معين بروائز مستوى دراسي أعلى لكي نجزم بأنهم ربحوا سنة دراسية أو سنتين. كما أن من سمح لنفسه بإعلان هذه الخلاصة الغريبة بناها على مقارنة نسبة التلامذة الذين أصبحوا يتحكمون بعد الدعم التربوي في مهارة معينة مقررة في مستوى دراسي معين مع نسبة من كانوا يتقنون المهارة نفسها في مستوى أعلى قبل الدعم التربوي. وهذه مقارنة معيبة لا تستقيم لأنها تخلط بين معايير مختلفة وتقيس على تلامذة هم أصلا متأخرون عن مستواهم الدراسي الحقيقي.
ثانيا، صرح رئيس الحكومة بأن التلاميذ الذين ينتمون لمدارس الريادة حققوا خلال التقييمات المنجزة نتائج أفضل مقارنة مع أكثر من 82% من التلاميذ غير المستفيدين من هذا البرنامج وهي، حسب تصريحه دائما، نتائج جد متقدمة فرضت علينا التسريع باستكمال تعميم هذا البرنامج الطموح. لكن حسب الدراسة التي تنسبها الحكومة خطأ إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في حين أنها تهم فقط الباحثين الأربعة الذين أنجزوها، فإن التلميذ المتوسط ​​في مدرسة الريادة، وليس جميع تلامذتها كما قال رئيس الحكومة، يحقق أداء أفضل من 82 في المائة من أقرانه في المدارس المقارنة التي لم تطبق المشروع، على افتراض أن نقط الاختبار موزعة بشكل عادي. وهو ما يعني من الناحية الإحصائية بأن الفارق لصالح مدارس الريادة هو 32 في المائة، حسب الدراسة نفسها التي تشكو من عيوب منهجية سنعود إليها. والمثير للانتباه هو أن رئيس الحكومة، وخلافا لآخر خرجة إعلامية لوزير التربية الوطنية، لم يقل بأن الدراسة المذكورة بوأت مدارس الريادة مكانة الصدارة عالميا من حيث الأثر على التعلمات لأن مستوى التقدم في نتائج التعلمات بلغ بعد سنة دراسية 0.9 انحراف معياري. فهل انتبه إلى بعض الأخطاء المنهجية التي شابت الدراسة؟
من الناحية المنهجية تشير الدراسة إلى أن النقط المحصل عليها من طرف المتعلمين في التقييم تم تنميطها بناء على المتوسط والانحراف المعياري للتلامذة في المجموعة الضابطة. هذا يعني أنه تم تحديد الانحراف المعياري في 1 وبالتالي، فإن الأثر الذي تم تسجيله يعني أن متوسط المجموعة التجريبية يتم إزاحته بمقدار 0.90 انحراف معياري مقارنة بمتوسط المجموعة الضابطة الموحدة. المشكلة الرئيسية تكمن في نقص البيانات الأولية لأن الدراسة لا تقدم أي معلومات عن متوسط النقط الخام، ولا الانحرافات المعيارية الأصلية، ولا وحدات قياس الاختبارات. يمنع هذا التعتيم أي تحقق من صحة التنميط الذي تبنته الدراسة، وأي إعادة حساب لحجم التأثير الحقيقي بناء على الانحرافات المعيارية الفعلية. هناك بالتالي خطأ منهجي كبير في المقارنة التي عقدتها الدراسة مع Evans & Yuan (2022) عندما أكدت بأن الأثر الذي تم الحصول عليه يتجاوز النسب المئوية 90 من الآثار المحددة في دراسة Evans & Yuan (2022) ، لأن هذه الأخيرة تم احتسابها على أساس الانحرافات المعيارية الحقيقية، بينما تستند الدراسة بخصوص المدارس الرائدة إلى انحراف معياري منمط. وبالتالي فإن المقارنة باطلة من الناحية المنهجية، ما لم يتم إعادة حساب الأثر على أساس الانحرافات المعيارية الفعلية. ربما هذا ما يفسر عدم نشر هذه الدراسة في أية مجلة علمية مفهرسة.
ثالثا، صرح رئيس الحكومة في الجلسة الشهرية بأن تقييم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لمدارس الريادة كان إيجابيا لأنه أكد بأن نسبة المطابقة مع الأهداف المسطرة من طرف الوزارة قاربت 80 في المائة. وإذا كان صحيحا بأن هذا الرقم إيجابي فإنه في الحقيقة يخفي ضعفا بينا في المشروع نفسه، لأنه رغم تطبيقه وفقا للمواصفات المطلوبة، فإن نتائجه لم تنعكس بالشكل المطلوب على جودة التعلمات. وهكذا، لا تريد الحكومة أن تعترف بالحقيقة التي أقرها تقييم المجلس الأعلى للتربية، ومفادها أن التقدم الذي عرفته نتائج التحصيل الدراسي في هذه المدارس استفادت منه نسبة تتراوح حسب المواد الدراسية بين 50 و67 في المائة، وأن ذلك كان بفضل الدعم التربوي فقط، وليس بفضل منهجية التدريس الصريح. وهي نتيجة مماثلة لما حصل عليه التلامذة فيما سمي بمبادرة جيل مدرسة النجاح على عهد الوزير أحمد اخشيشن وكاتبة الدولة لطيفة العبيدة، وهو مشروع يتشابه إلى حد كبير مع مشروع مدارس الريادة، بحيث ركز على الدعم التربوي وبيداغوجيا الإدماج، وسنعود في مقال لاحق للمقارنة الدقيقة بين المشروعين، وعرف هو أيضا نتائج باهرة في بدايته، لكن دون أن يتم التسويق له آنذاك بالاحترافية التي نسوق بها اليوم لمدارس الريادة.
كما أن تقرير المجلس الأعلى خلص إلى أن ما بين 26 و55 في المائة من التلامذة في مدارس الريادة إما حافظوا على مستواهم الدراسي غير المرضي أو تراجعوا، فهل نواصل الدعاية السياسية لمشروع مدارس الريادة في سياق الاستعداد للانتخابات القادمة أم نوجه بوصلة الاهتمام بجدية نحول إصلاح حقيقي لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي استنادا إلى مرجعيتي الإصلاح وهما الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار؟

 

By Akhbar24h

مرحبًا بكم في Akhbar24h، مصدر الأخبار الأول لكل ما يحدث لحظة بلحظة!نحن منصة إخبارية رقمية نقدم لكم آخر المستجدات على مدار الساعة في مجالات السياسة، الاقتصاد، العملات الرقمية، الرياضة، والطقس، مع الحرص على تقديم محتوى موثوق، موضوعي، ومحدث باستمرار.مهمتنا:نقل الأخبار بكل مصداقية وحياد توفير تحليلات معمقة لأبرز الأحداث تقديم محتوى متجدد بأسلوب سلس وسريع تابعونا للبقاء في قلب الحدث أولًا بأول! تواصلوا معنا عبر الرسائل لأي استفسار أو اقتراح.#أخبار_24_ساعة #مواكبة_الأحداث #كن_في_الصورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *